في هذا المقال سوف أتحدّث عن تجربة خاضتها سيدة مع إدمان الهيروين لمدة عشرين عاماً ثم بعد ذلك تبعتها بخمسة أعوام في سجن خاص بالنساء في بيروت. هذه السيدة المدمنة ليست فتاة ساذجة ، ولكنها سيدة ناضجة وتعمل أستاذة جامعية عملت في هذا السلك الأكاديمي حتى يوم إلقاء القبض عليها وإدخالها السجن ، وواصلت عملها بعد أن خرجت من السجن في التعليم والعمل الأكاديمي.
هذه التجربة دوّنتها السيدة جويل جيابيزي الفرنسية الأب ، اللبنانية الأم والتي عاشت حياتها في بيروت ، في كتاب جميل كُتب بالفرنسية وتُرجم إلى اللغة العربية تحت عنوان :»الجدران لا تصنع سجناً» . و أشكر الدكتورة حنان عطا الله التي لفتت انتباهي إلى هذا الكتاب المهم و الذي كتبت عنه في زاويتها الأسبوعية في جريدة الرياض.
بداية السيدة جيابيزي مع الهيروين كان عندما كانت في السابعة عشرة ، أثناء الحرب الأهلية اللبنانية ، حيث استشرى تعاطي المخدرات بين الشباب ، بل حتى عند كبار السن. بدأت السيدة جيابيزي في تعاطي الهيروين بشكل يومي ، ولم تكن هناك صعوبات أثناء الحرب الأهلية اللبنانية في الحصول على هذا المخدر ، ولكن الأمور ازدادت صعوبة بعد نهاية الحرب الأهلية ولكن كان يمكن الحصول عليه وإن لم يكن بنفس السهولة السابقة. السيدة جيابيزي لم تكن السيدة الوحيدة التي تتعاطى الهيروين بل كان هناك نساء أخريات مدمنات على هذا المخدر القوي ، وهذا ما تقوله الدراسات المهتمة بالإدمان بأن النساء أصبحن أكثر إقبالاً على الإدمان وذلك حسب التغييرات الاجتماعية التي طرأت على المجتمعات العربية والتي رافقها ازدياد نسبة النساء ، خاصة الفتيات الصغيرات في الإدمان على المخدرات ، سواء كان إدمان الحشيش أو الحبوب المنشطة والمخدرة وكذلك المخدرات القوية مثل الهيروين والكوكايين.
خلال مرحلة إدمانها تزوجت السيدة جيابيزي وأنجبت طفلة ، ولكن ذلك لم يمنعها عن تعاطي الهيروين ، حتى حينما واجه زواجها مشاكل كبيرة بسبب تعاطيها للمخدرات وانتهى هذا الزواج بالطلاق نتيجة تعاطيها للمخدرات ومحاولة إغراق زوجها معها في تعاطي المخدرات. عاشت مشاكل كثيرة مع عائلتها بسبب تعاطيها للمخدرات ، ولكنها لم تستطع أن تتخّلص من هذا الإدمان برغم تأثيره على حياتها بجميع جوانبها حيث أصبحت أمّا لطفلة تعيش معها وحيدة بعد أن ترك الأب المنزل بعد الطلاق وأصبحت هي المسئولة عن هذه الطفلة إضافةً إلى عملها في التدريس الجامعي وكذلك إعطاء دروس خصوصية لكي تستطيع أن توّفر مالاً تُعيل طفلتها وكذلك الحصول على الهيروين الذي ارتفعت أسعاره في ذلك الوقت.
تصف السيدة جيابيزي حياتها وهي تحت وطأة الإدمان بأنها كانت حياة أشبه بالموت ، بل هي موت.. إذ لا يعرف المرء شيئا غير المخدر وكيف يحصل عليه وكيف يُدبر المال للحصول على هذه المخدرات غالية الثمن ثم الغياب تحت تأثيرها!. المدمن لا يعيش حياةً كالآخرين ، بل هو أسير للمخدر طوال وقته!. هذه السيدة تصف حياتها أثناء إدمانها للهيروين بأنها موت حقيقي ، حيث لا وجود لأي نشاط حياتي. العمل بكثرة للحصول على المال كي تعيش وتحقن نفسها بمخدر الهيروين.
تحاول السيدة جيابيزي أن تجد مبرراً لإدمانها ، ولكنها تعرف بأن كل ما تسوق من مبررات إنما هي أمور واهية وغير حقيقة ، فالإدمان مرض خطير وهي تعرف بأنها مدمنة وتحتاج إلى العلاج لكنها لا تجرؤ على فعل ذلك ، بل جُلّ ما تفعله هو أن تركض في حياتها بحثاً عن الهيروين ثم تحقن نفسها به ، وتعيش اللذة الوهمية لأخطر مخدر حتى تنتهي هذه اللذة ومن ثم تبحث مرةً آخري عن الهيروين.
تتحدث السيدة جيابيزي عن أصدقائها وصديقاتها الذين قضوا نحبهم نتيجة تعاطي الهيروين. كثير من أصدقائها ماتوا بسبب تعاطي الهيروين ، إما بسبب تعاطي هيروين مغشوش أو بسبب جرعات زائدة أو أي سبب آخر من أسباب الوفاة التي تُرافق عادةً تعاطي الهيروين. كانت تظن أن ما سوف يحدث لها هو أن ابنتها سوف تجدها يوماً ما ميتةً بجانب حقنة هيروين ولكن الذي حدث هو أن رجال الشرطة جاءوا ذات يوم إلى المنزل واقتادوا الأستاذة الجامعية إلى مركز الشرطة قبل أن ينقلوها إلى سجن مؤقت ثم إلى السجن الذي أمضت فيه خمس سنوات.
يقع العديد من المدمنين ويودعون السجن
لم تكن هذه المرة الأولى التي تُلقي الشرطة فيها القبض على السيدة جيابيزي ، فقد قبضت عليها مرتين قبل هذه المرة. في المرتين السابقتين ، كان الأهل يمضون إلى مركز الشرطة و يوقّعون كفالة وتخرج معهم إلى منزلها ، ولكن لتعود بعد ذلك لتعاطي الهيروين مرةً آخري.
في المرة الثالثة حدثت قصة جعل القبض عليها ليس استعمالا فقط ولكن ترويجا أيضاً. ولكن الأستاذة الجامعية لم تكن كذلك. حدث أمر غيّر مجرى حياتها وقضية تعاطيها للهيروين. المورّد أو المروّج الذي كان يجلب الهيروين لها ولمجموعة من زملائها في الحي تم القبض عليه وحُكم عليه بالسجن المؤبد ، وعرفت المجموعة الصغيرة التي تسكن في تلك المنطقة بأنهم أيضاً حُكم عليهم بالمؤبد من تعاطي الهيروين. اتفق المدمنون على البحث عن مصدر آخر للهيروين ، وأن من يجد هيروين عليه تزويد بقية المجموعة. باءت جميع المحاولات بالفشل ، والغش الذي مارسه بائعون وهميون ، حيث باعوها مسحوق البنادول وبودرة لمواد متعددة على أنها هيروين ولكن كل هذا لم يفِ بالغرض ولم يجعلها تُقلع عن تعاطي الهيروين. حينما ضاقت بها الدنيا لم تجد بداً من أن تذهب بنفسها إلى البقاع حيث الموردين الكبار للهيروين. كانت تعرف بعضهم ، وفعلاً ركبت سيارتها وذهبت إلى البقاع ، وخاطرت عندما ذهبت وحيدة بسيارتها لجلب الهيروين من تعرضّها لمخاطر قطّاع الطرق وعصابات المخدرات الأخرى. فعلاً ذهبت وأحضرت كمية تكفيها لأسبوع ، ووضعت عبوة لكل يوم في كيسٍ صغير كتبت عليه الأيام: السبت ، الأحد وهكذا بقية أيام الأسبوع. لكن الأمور لم تسر على خير. أحد المدمنين الذين يسكنون في الجوار عندما لم تتصل وتطلب منه عرف أنها وجدت هيروين. جاء إلى منزلها الذي تسكنه هي وابنتها. حاولت أن تُقنعه بأن ليس لديها شيء لكنه أصّر بأن لديها داخل المنزل هيروين ، وعندما أصّرت على موقفها قام بتكسير سيارتها وهددّها بأنه يعرف مكان عملها وأنه سوف يذهب إلى مكان عملها ليفضحها هناك. بهذه الضجة أعطته جزءا يسيرا من الهيروين المتواجد عندها. بعد ساعات ألقت الشرطة القبض على المدمن الذي أعطته الهيروين واعترف بأن ما وفّر له الهيروين هو السيدة جيابيزي. حضر ضابط ومعه بعض الأفراد إلى شقتها ، حيث كانت مع ابنتها يستعدان لعيد الميلاد. طلب منها الضابط أن تُحضر المخدرات ، فكانت صادقة وأمينة فأحضرت الأكياس الصغيرة التي خزّنت فيها الهيروين لأيام الأسبوع. لم يُصدّقها الضابط بأن ما كُتب على الأكياس التي تحوي المخدرات هي أيام الأسبوع ، بل هي أسماء زبائن تبيع لهم المخدرات!. طلبت من الضابط أن تتصل بطليقها (والد ابنتها) لكي يأتي ويأخذ ابنته. ذهبت هي معهم إلى المخفر ومن هناك حولوها إلى سجن مؤقت «سجن بعيدا» حيث قضت بضعة أيام في هذا السجن قبل أن يحولوها إلى سجن النساء المعروف ب «سجن بربر الخازن».
لم يكن صدر حكم بحقها عندما تم نقلها إلى سجن بربر الخازن ، كان عليها أن تقيم هناك في أسوأ الظروف المعيشية لإنسان يعيش في بيروت. سجن النساء في بربر الخازن كان مكاناً لا يمكن وصف بشاعته ، وبالطبع لا يمكن أن يتخيّل إنسان السجن إلا مكانا تعيسا يضم أشكالاً وأصنافاً متعددة من المجرمات ؛ القاتلات ، القوادّات ، المومسات ، المدمنات ، المتورطات في مشاكل مالية ، مهربات المخدرات وبقية النساء اللاتي وقعن في مشاكل مع القانون قادتهن إلى السجن.
خلال فترة السجن التي دامت خمس سنوات كانت محرومة من المخدرات ، وكانت تتعاطى المهدئات لتعوّضها ، ولكن وجدت صعوبة في السجينة التي تُشرف على إعطاء الأدوية ، حيث إن هذه السجينة أيضاً مدمنة للهيروين وتتحكم في السجينات مما صعّب على السيدة جيابيزي أن تأخذ أدويتها في الوقت المحدد حسب ما وصفه لها الطبيب في سجن بعيدا. تركت السيدة جيابيزي تناول المهدئات ولا يوجد هناك أي مخدرات في السجن ، فأغرقت نفسها في العمل في المطبخ وفي أي شيء لتقضي وقتها قبل أن ينطق القاضي بالحكم عليها بعد أكثر من سنة من بقائها في السجن بالسجن لمدة خمس سنوات لتبدأ معها رحلة صعبة من الألم والحرمان ومعاناة الفراق عن ابنتها. كانت تتوقع أن يكون الحكم عليها خفيفاً لأنها قالت الحقيقة كما هي بأنها تستخدم الهيروين
لها شخصياً وقالت بأنها مدمنة .. مريضة بهذا الداء الذي أنهك الكثير والكثيرات خلال الحرب الأهلية اللبنانية ، وحاول محاميها الدفاع عنها لكن القاضي أخذ في الحسبان بأنه تم إيقافها مرتين في السابق وكان يجب أن تتعظ وتكف عن التعاطي ولكنها كانت عاجزة عن التوقف ببساطة لأنها مدمنة ولا تستطيع أن تتوقف هكذا ببساطة!.
25 نوفمبر 2011
جريدة الرياض